عالم الاجتماع المغربي عثمان أشقرا..المنهجس بالمتن الغائب
تتعدد مجالات اشتغاله، لكنها في الغالب تتحدد ضمن سوسيولوجيا الفكر و
مدارات الرواية و التأمل الفلسفي، فعثمان أشقرا يعتمر ثلاث قبعات على
الأقل، تتوزع على الفيلسوف و الأديب و السوسيولوجي، لم تزده الأيام إلا
اقتناعا بالركون إليها جزئيا أو كليا لتحليل و تفكيك ما يتناول بالدرس من
مفاهيم و قضايا و وقائع سياسية و اجتماعية.
هو القادم من "سوس
العالمة" إلى سهول الشاوية، فالمرتحل بعدا، بسبب إكراه/ لذة الانتماء
المهني إلى تطوان أو الحمامة البيضاء حيث يشتغل آنا أستاذا بالمدرسة العليا
للأساتذة، هذا الارتحال عبر أزمنة و أمكنة مغربية مختلفة سيكون له كبير
أثر في المنجز الفكري و الإبداعي لأشقرا، سواء في مستوى اختيار الفكر
الوطني أفقا للبحث السوسيولوجي و الرواية التاريخية موطنا أدبيا و التنوير و
عسر الانصلاح سؤالا فلسفيا/ سوسيولوجيا يحدد الملامح الكبرى لمشروعه
المعرفي الذي ما زال يؤصله و يوسع النقاش بصدده.
عثمان أشقرا منتصر
دائما لثقافة الاعتراف، لهذا لا يدع الفرصة تمر دون أن يعترف بأن ما وصل
إليه ما هو إلا ثمرة من غرس أساتذته الأجلاء، و في مقدمتهم "العالم و
السياسي" محمد جسوس، الذي علمه كيف يكون الانتماء إلى علم الاجتماع، و كيف
تتأتى ممارسة السوسيولوجيا بنوع من الزهد و لربما الألق الصوفي، فضلا عن
"المؤرخ و الفقيه" الراحل محمد المنوني الذي تعلم منه الافتتان بالوثيقة
التاريخية و طرائق الاشتغال عليها لاكتشاف "المتن الغائب".
فأثناء
اشتغاله على "سوسيولوجيا الخطاب الإصلاحي بالمغرب: 1907-1934" و ذلك لنيل
دبلوم الدراسات العليا في علم الاجتماع كان أشقرا محظوظا و مدعوما بإشراف
مزدوج من توقيع جسوس و المنوني، و هو الإشراف الذي سيؤثر في مساره بعدا
اعتبارا للدروس القوية التي تعلمها من الرجلين في مستوى ضبط الإيقاع
السوسيولوجي و تجريب البحث التاريخي.
تعددت العناوين التي أهداها
عثمان أشقرا للمكتبة العربية، لكنها كانت في الغالب منشغلة بالفكر الوطني، و
لعل هذا ما جعل صديقه و زميله عبد الجليل بادو، يقول بأن "أعماله تؤكد
اختياره لسوسيولوجيا الفكر كحقل يأخذ باهتماماته". ففي "في سوسيولوجيا
الفكر المغربي الحديث" و "في الفكر الوطني المغربي" و "المتن الغائب" و
"العطب المغربي" و "الحركة الاتحادية" و"علال الفاسي" و "الوطنية والسلفية
الجديدة بالمغرب" و أخيرا "موجز فكر التنوير" يلوح بقوة ذلك الانهجاس
الأقصى بسوسيولوجيا الفكر كمبحث تخصصي اطمأن إليه أشقرا منذ مشاغباته
الأولى و اعتبره مفتتحا لفهم كثير من الحالات السوسيوسياسية التي قد تجد
لشروط إنتاجها الأولية شواهد تاريخية تنتمي إلى الفائت لا الراهن.
في مدارات المسرح و القصة و الرواية نكتشف هذا التكثيف الدلالي لأسئلة
الفكر و العطب و الإصلاح و التنوير، بحيث تصير الرواية مجرد امتداد فكري
تخييلي لأسئلة مشروعه المعرفي، ففي "رجال الميعاد" و "محنة الشيخ اليوسي" و
"بولنوار" أو "أبي الأنوار"، و كذا في "الجثة المكوفرة" نقرأ متنا إبداعيا
مائزا، و في الآن ذاته نقرأ تساؤلات نقدية و انفتاحات تاريخية لا تحيل فقط
إلى الماضي بل تمتد بآثارها و بعبرها في الحاضر العصي على الفهم.
ثمة أصوات متعددة تحضر في اشتغاله الروائي، فهو الفيسلوف و السوسيولوجي و
الأديب و لما حتى العاشق للتاريخ، نلمس هذا التعدد الأصواتي في "الجثة
المكوفرة" التي جاءت في جزأين، الأول منهما يتحدث عن "موت السلطان المعظم
وثورة الطالب المحيمر العجيبة"، فيما الثاني وسمه أشقرا بهكذا عنوان: "أنا
مولاي عبد العزيز سلطان المغرب أقول لكم".
يعتبر عثمان أشقرا أن
نكسة هزيمة إيسلي، جعلت المغربي يكتشف عجزه و تأخره، و هو ما سيسمح بعدا
ببروز الكثير من الرسائل و التآليف التي باتت تفكر في "الغمة المغربية" و
"العطب القديم" و "الصدمة" و تطالب بفكرة "الإصلاح" و "الانبعاث" و
"اليقظة"، يقول أشقرا بأنه "في الرابع عشر من غشت1844، وفي مكان معروف
بوادي إيسلي في نواحي مدينة وجدة، انهزم جيش مغربي قوامه "ثلاثون ألف فارس
تزيد قليلا أو تنقص قليلا" أمام بضعة آلاف من الجنود الفرنسيين المنظمين
والمسلحين بكيفية حديثة. وبدون جدال، فقد كان لتلك الهزيمة القاسية صداها
المدوي والعميق داخل المجتمع المغربي على مختلف طبقاته وأصعدته".
هذه اللحظة التاريخية المثقلة بالدلالات و الانكسارات أيضا، استوجبت من
أشقرا أن يفكر في الذي حدث، من حيث الرد فكريا على واقع الهزيمة أو
استضمارها و القبول بها، و أن يلتفت إلى "المتن الغائب" في تضاريس الفكر
المغربي، فثمة أعمال كثيرة لم تحظ باهتمام الباحثين، أو أنها تعرضت للتلف،
لكونها متفرقة على مخطوطات و طبعات حجرية و في أحسن الأحوال في "جرائد و
مجلات سيئة الترتيب و الصيانة داخل خزانات عامة و خاصة".
يتساءل
أشقرا دوما عن سر العطب المغربي و عسر الانصلاح، و يعود إلى سنة 1858
تحديدا على عهد السلطان محمد الرابع الذي كان مهتما بالتحديث و الإصلاح،
ففي عهده أنشئت مدرسة للمهندسين بفاس و ترجم كتاب إقليدس و تم إيفاد 360
طالبا للدراسة بالضفة الأخرى، يدعونا أشقرا إلى الانتباه إلى أنه في ذات
التاريخ تقريبا أوفد إمبراطور اليابان البيجي وفدا للإفادة من ثمرات القارة
العجوز في ميدان الفكر و العلم و الصناعة. لكن في مقابل نجاح تجربة
التحديث اليابانية مني المشروع المغربي بفشل ذريع، فهل يتعلق الأمر
بالاستعمار؟ إنه الجواب السريع الذي لا يقبل به أشقرا. لهذا سيخصص
اجتهاداته لمحاولة فهم و تفهم هذا العسر و الفشل، عبر استدعاء الفكر الوطني
الإصلاحي في متنه الغائب و المهمل.
الانشغال بسوسيولوجيا الفكر
سيقوده في مستوى ثان إلى الحفر الأركيولوجي في "أصول نشأة مفهوم الوطنية في
المغرب وما أحاط بهذه النشأة من ملابسات سياسة وثقافية ودينية واجتماعية"،
و ذلك من خلال كتابه الموسوم ب"كتاب الوطنية والسلفية الجديدة بالمغرب" و
الذي توزع على ثلاثة أقسام ناقشت معطيات السيطرة الاستعمارية بالمغرب و
الحركة الوطنية المغربية، فمضمون و خطاب الفكر الوطني بالمغرب، و ذلك
اعتبارا من 1930 إلى 1956.
طول انشغال بالإصلاح و العطب سيقوده
بعدا إلى التفكير في التنوير، و الاشتغال عليه، من داخل مشروع، يسائل
بدايات التنوير و مقدماته و مساراته و شروط إنتاجه الكفيلة بجعله متنا و
فعلا حاضرا لا غائبا في الزمن المغربي و العربي عموما. ففي "موجز التنوير"
الذي يعد مفتتح القول في مشروعه هذا، و الذي لا ينفصل عن انهجاسه الأقصى
بسوسيولوجيا الفكر و المتون الغائبة، يحرص أشقرا على العودة بالمفهوم إلى
لحظات التأسيس الأولى، متتبعا سيرورة فكر التنوير في هولندا وإنجلترا،
وفرنسا، وألمانيا، مقدما و مناقشا مقاربات الكبار لفكرة التنوير من أمثال:
هيغل وماركس ونيتشه و هوركهايمر و أدورنو و وماركوز و كاسيرر و راولز و
هابرماس. و كأنه يعود بذلك إلى مسكنه الفلسفي لمساءلة واقعة مجتمعية و بلغة
أدبية رشيقة أيضا.
فما يميز أشقرا هو التعدد المقارباتي الذي
يعتمده في تدبير ما يتوجه إليه بالسؤال و البحث، إنه لا يدعي امتلاك الجواب
الكلي و الجاهز، و لا يروم إلا الاهتمام بمساحات زمنية و موضوعاتية
محدودة، إنها مميزة أخرى من ملامح الجيل الثالث من سوسيولوجيا ما بعد
الاستقلال، و فوق ذلك كله، فإنه لا يفرط في قبعاته الثلاث التي تمنحه
القدرة، أعلى قليلا، على الفهم و التميز، و تمنح قارئه المفترض فرصا فضلى
لقراءة أعمال متعددة الأصوات يحضر فيها الحس الإبداعي و النظر الفلسفي و
العمق السوسيولوجي و النفس التاريخي، إنه عثمان أشقرا المنهجس بالمتن
الغائب، و المعتمر لثلاث قبعات على الأقل.
عبد الرحيم العطري